“القوانين”.. ما بين الضبط الاجتماعي والإسراف التشريعي

غازي كشميم - جدة
الجمعة 23/05/2014

“القوانين”.. ما بين الضبط الاجتماعي والإسراف التشريعي


ينتقد بعض الخبراء كثرة التشريعات والتقنين في القضايا المختلفة بسبب ما قد تؤدي إليه من تعنت للمجتمع وتضييق عليه وبالتالي إيجاد ذرائع لمخالفة تلك القوانين وانتشار بيئات الفساد الإدارية، ويرى أصحاب هذا الرأي أنه لا بد من التعويل وإعطاء أولوية للطرح القيمي والأخلاقي عبر المنابر المختلفة لتكوين أرضية صلبة من الوازع الذاتي والمجتمعي. لكن آخرين يرون أننا في مرحلة بناء ولا بد من إصدار مزيد من التشريعات والقوانين، وأن المشكلة ليست في إصدار التشريعات وإنما في البيئة المحيطة بها أو ما يصاحبها من آليات وأجواء قد لا تكون محل إجماع وتأييد مجتمعي. هذه القضية طرحناها على عدد من المختصين والباحثين في ثنايا التحقيق التالي:


بداية قال الكاتب والباحث الدكتور عبدالرحمن الحبيب إن ثمة مقولة قديمة تتكرر حتى أيامنا هذه، وهي «كلما زادت القوانين قلت العدالة» للفيلسوف الروماني شيشرون عندما كانت روما تطفح بالأنظمة قبل قرن من الميلاد، مما دعا المؤرخ الروماني تاسيتوس الذي تلاه بقرنين أن يقول:»كلما زاد الفساد في الدولة، زاد تضخم القوانين.»؛ لكن الحبيب لا يرى أن ذلك يتطابق مع وضعنا بالسعودية، حيث لا زلنا في حاجة ماسة لمزيد من القوانين والتشريعات والمؤسسات الحمائية بسبب أننا نمر بنمو وتوسع سريع في كافة المجالات وما يتبعها من تغيرات اجتماعية واقتصادية هائلة تتطلب تعديلات نظامية وإدارية. وأوضح الحبيب أن المشكلة ليست في كثرة التشريعات فلا أعتقد أنها كثيرة لدينا بل المشكلة في فهمنا لها، خاصة ذلك الفهم البيروقراطي المتحجر الذي يعطي كل قانون مجموعة نظم بيروقراطية تُعقد أكثر مما تحل. ودلل الحبيب بمن يريد إنشاء مشروع استثماري مثل محل تجاري قد يتطلب منه الوضع سنة إلى سنتين من الأنظمة المتحجرة وقد يكون المستثمر بين خيارين إلغاء فكرة المشروع أو البحث عن طريق غير نظامي.وعن كيفية التوفيق بين أولوية الطرح القيمي والأخلاقي من خلال المنابر المختلفة وبين التشريع القانوني لكل قضية مستجدة من القضايا أكد الحبيب على أن الأولوية هي للطرح القيمي عبر كافة وسائل التوعية (المدرسة، الإعلام، الدعاة، المثقفين..)، مشيرًا إلى أنه قبل أن نضع قانونًا جديدًا لوضع جديد نحن في حاجة لرأي عام (وسط اجتماعي) يتقبله أو يمكن أن يقتنع به عبر المبررات الأخلاقية والحاجة المادية المستجدة للوضع الناشئ. وأوضح الحبيب ذلك بتحليل قانون عقوبة ضرب الزوجة حيث كانت الأسر في السابق شبكة مترابطة ومتقاربة وتعيش في قرى أو بوادٍ أو بلدات صغيرة الجميع يعرف الجميع، وعندما تتعرض الزوجة للأذى فيمكنها بسهولة إيصال شكواها. في تلك الحالة كان المجتمع المحيط يتدخل تلقائيًا حتى أحيانا بدون شكوى، فضلا عن أنها لو تطلقت فسرعان ما تتزوج بلا عُقد الزمن الحاضر. ويضيف الحبيب أننا الآن أصبحنا نعيش في مجتمع مدن حيث الأسر القرابية بعيدة عن بعضها، وكثير من الأسر تعيش في وحدات سكنية منعزلة لا أحد يعرف ما يجري بها حتى من أقرب الأقرباء، وكثير منهم بعيدون عن بعضهم. متسائلًا من سيحمي المرأة في هذا الوضع؟ وأضاف الحبيب أن ثمة أمراضًا اجتماعية غريبة كالمخدرات وأمراضًا نفسية جديدة فاقمت الحالة. مؤكدًا أننا بحاجة ماسة لقوانين جديدة ومؤسسات جديدة لحماية المرأة من الإيذاء. وهذا المثال ينطبق على أية نوعية مستجدة من الضحايا الجدد الذين يظهرون مع تغير تركيبة المجتمع.
دراسات معمقة
أوضح المحامي والمستشار القانوني سلطان الرشيد أن قضية التقنين تخضع وتلبي حاجات المجتمع، وأي نظام يجب أن يكون كذلك، وهذا هو منطق القانون وما تسير عليه الأمم، وهذا ما يضمن رقي الأمة وانتظامها. وعن تقييد القوانين لتصرفات الناس وما يمكن أن يبعثه من لجوئهم إلى التحايل قال الرشيد: إن الأصل أن لا تصدر القوانين إلا بعد دراسة معمقة وموسعة من خبراء القانون، مبينًا أن القانون إذا لم يأخذ حظه الكافي من ذلك فإنه يمكن أن تكون به ثغرات عديدة يتحايل الناس بها على القانون. وأضاف الرشيد: إنه من الطبيعي أن تكون هناك ثغرات في كثير من القوانين لأنها في المحصلة هي من جهد البشر وليست معصومة، وهنا يأتي دور القانونيين والمختصين لبيان هذه الثغرات ومحاولة إصلاحها، وبالتالي العمل على تعديلها وهكذا تتطور القوانين، مؤكدًا أن القانون يجب أن يأخذ وقته الكافي واللازم بالإضافة إلى الاستفادة من تجارب الآخرين، ومعرفة حال المجتمع وقيمه وأعرافه التي تصدر فيه تلك القوانين. وعن التضييق على الناس بزيادة القوانين والأنظمة قال الرشيد: إن قضية (التضييق) قضية فضفاضة فما يراه البعض تضييقًا أو تقييدًا قد يراه آخرون جيدًا ومناسبًا، موضحًا صعوبة استصدار مثل هذه الأحكام بالتعميم ومن غير دراسة. وعن خرق المجتمع لهذه القوانين التي من شأنها أن تنظم العلاقات البينية لأفراده قال الرشيد: إن ذلك السلوك طبيعي في بيئة لم تعتد على القوانين والأنظمة، لكن المشكلة الحقيقية هي في طبيعة الرفض لمجرد الرفض وليس عن اطلاع ومعرفة. وبين الرشيد أن القوانين في المجمل خاضعة للقبول والرد حتى إذا استمدت واستندت على بعض الأقوال الفقهية الراجحة أو المرجوحة من قبل العلماء والمختصين. وأكد الرشيد أن من يعترض على القوانين لا بد وأن يبين وجه اعتراضه سواءٌ كانت مخالفة للشريعة أو للعادات أو للحريات العامة والقيم الإنسانية، وغيره فلا بد وأن تكون هناك أسباب حقيقية وواقعية للاعتراض على أي قانون. وعن ثنائية الطرح القيمي وتغليبها على الطرح القانوني قال الرشيد: إنه من المفترض أن لا تكون هناك ثنائية مزدوجة بين الجانبين، مبينًا أن قيم المجتمع لها شرعية باعتبار أنها تستند على إرث تاريخي وديني. وأضاف الرشيد: إن الطرح القيمي لو انتشر بين الناس والتزموا به لخفتت كثير من مشكلاتنا الاجتماعية لكنه عقب بأن الالتزام القيمي الكامل هو طرح مثالي غير موجود في المجتمعات، وستبقى هناك فئات من الناس تحتاج إلى قوانين لضبطهم وتقييد سلوكهم لمصلحة الآخرين، لذلك ستبقى الحاجة إلى سن القوانين لتنظيم علاقات أفراد المجتمع فيما بينهم.

كثرة التقنين
من جهته قال المشرف التربوي لعلم النفس والاجتماع بالمنطقة الشرقية الدكتور خالد الشهري: إن الناس بحاجة إلى الوازع القيمي من جهة وإلى الوازع التشريعي من جهة أخرى، وأشار الشهري إلى مقولة الشيخ صالح الحصين أن كثرة التقنين هي سبب من أسباب الفساد والاحتيال لأن كل ما وضعت قوانين جديدة اضطر الناس إلى مخالفتها. وأوضح الشهري أن أي قانون يجب أن يكون مناسبًا لحاجة الناس ووضعهم، ولا بد أن يطبق على الجميع مصداقًا لحديث النبي عليه الصلاة والسلام: «الناس سواسية كأسنان المشط»، مبينًا أنه إذا اختلت هذه المعايير فقد القانون قيمته. وأكد الشهري أن إسلامنا دين الأخلاق، لأنه يركز على البناء الأخلاقي، لكن لا بد من النظرة الواقعية حيث إن التحفيز القيمي والأخلاقي لوحده لا يكفي خاصة في عالم متغير، كما قال سيدنا عثمان بن عفان-رضي الله عنه-: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن». وأكد الشهري أن التركيز الأساسي لا بد أن يكون على القيم وستبقى هناك فئات من الناس لا يجدي معهم إلا القانون. موضحًا أن حاجتنا إلى تحفيز القيم ستظل مهمة وضرورية أكثر من اعتمادنا على القوانين.


 

ليصلك كل جديد عنا ولنكون علي اتصال