القيم من التوجيهات النظرية إلى الواقع العملي

استطلاع - غازي كشميم
الجمعة 15/08/2014


تكثر توجيهات الآباء والمربين لأبنائهم ومحاولة ترسيخ القيم الإيجابية والمفاهيم الأخلاقية عن طريق الوعظ والإرشاد الكلامي المباشر، ورغم ذلك يشتكي أولئك الآباء من عدم استجابة أبنائهم، وانعدام تغير سلوكهم مع كثرة النصائح والإرشادات. فأين يكمن الخلل؟ هل في عدم تقبل الأبناء لتلك النصائح والتوجيهات؟ أم أن المشكلة في طريقة وأسلوب التوجيه والنصح؟ وهل للعوامل الخارجية من صحبة وإعلام ووسائل تواصل حديثة تأثير في عدم انصياع الأبناء لتوجيهات آبائهم؟ وكيف يمكن إقناع الأبناء بالقيم والأخلاق الرفيعة من غير كثرة توجيهات ونصائح؟ وما العوامل الرئيسة التي يمكن أن تنقل القيم والأخلاق من مجرد توجيهات يستمع إليها الأبناء كل إلى قناعة ذهنية وممارسة سلوكية في حياتهم اليومية؟ هذه الأسئلة وغيرها طرحناها على عدد من المختصين في الشأن التربوي من خلال الاستطلاع التالي:

قال أخصائي الطب النفسي العام والعلاج النفسي للأطفال والمراهقين‏ الدكتور ملهم الحراكي إن مشكلتنا التربوية في العالم العربي هي غياب القيم الواضحة خاصة لدى الأبناء وعدم معرفة تطبيق تلك القيم، مبينًا أن الكيفية التي يتم بها تطبيق القيم فيها تشوش كبير. وأكد الحراكي أن تحويل القيم إلى سلوك عملي وواقعي يعد من أخطر وأدق القضايا التي تميز المجتمعات المتقدمة عن المجتمعات المتأخرة. وأضاف الحراكي أن القيم في العالم المتقدم واضحة جدًا ومطبقة بشكل دقيق ومنظمة بقانون واضح وليس هناك خلاف عليها بين أبناء المجتمع مشيرًا إلى أن نفس القيم موجودة لدينا غير أن آليات تطبيقها غير موجودة. وعزا الحراكي السبب في ذلك إلى طريقة نقل وتلقين القيم من قبل الآباء والأمهات والمدرسين إلى الأبناء والطلاب بطريقة عامة نظرية قد لا يطبقها الآباء والأمهات أنفسهم. وقال الحراكي إن طريقة تربية الأبناء على القيم تنقسم بحسب الفئة العمرية، فالأطفال دون سن المدرسة لا يكون تلقين القيم لهم بالكلام والموعظة بل بشكل عملي، ويكون مرتبطًا بثواب وعقاب مناسبين لهم، وأكد الحراكي على ربط السلوك والقيم بأشياء مادية عند أطفال ما قبل المدرسة لأن عقولهم لا تستوعب بعد مفهوم القيم مثل الصدق والاحترام، ثم بعد ذلك يتم ربط الأطفال بالقيم عن طريق المكسب والخسارة وما يمكن أن يكسبوه أو يخسروه بالتزامهم بتلك القيم أو ابتعادهم عنها. وأضاف الحراكي أن الطفل بعد سن المدرسة ينتقل إلى مرحلة التمييز وعندها يبدأ لديه التفكير المنطقي ويمكن من خلاله أن يكون تكريس القيم عن طريق الاتفاق معه أو الحزم في بعض القضايا مع بقاء مبدأ الثواب والعقاب أو مبدأ اللذة والألم لأن طبيعة الإنسان في مختلف مراحل عمره يحب الثواب ويخاف من العقاب. أما بالنسبة لسن المراهقة فيقول الحراكي إن القيم تكون مترسخة أو موجودة في نفس الطفل من خلال السنوات السابقة التي تم فيها ضخ القيم ومعانيها لكنه بحاجة إلى اختبار تلك القيم ومدى ملاءمتها للواقع وسنن الحياة، مضيفًا أن الوعظ في هذه المرحلة يفضل أن يكون قصيرًا وعلى طريقة السؤال كما فعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع الشاب الذي جاء يستأذنه في الزنا، فاستنهض الرسول عن طريق الأسئلة قيم الشاب المخبوءة في نفسه، وأشار الحراكي إلى أن طرح الأسئلة يستثير الجانب المنطقي عند الشباب، مؤكدًا أن زرع القيم بطريقة سؤال واحد قد يكون أفضل من ساعات من الوعظ والخطاب المباشر والتلقيني. كما أشار الحراكي إلى أن غرس القيم يمكن أن يكون عن طريق العقاب وليس فقط بالكلام فإذا ما أخطأ الطفل فإنه يعاقب العقاب المناسب له والذي ينبهه إلى خطئه بفعل مباشر وليس فقط بالنصح والكلام.
التلميح لا المباشرة
فيما قال أستاذ الثقافة الإسلامية بكلية الشريعة بالأحساء الدكتور عبداللطيف الحسين إن قضية ترسيخ القيم لدى الأبناء كسلوك ثابت من المسائل المهمة والصعبة في نفس الوقت خاصة في الظروف الاجتماعية التي نعيشها، وأضاف الحسين أن على الآباء والأمهات أن يكونا قدوتين حسنتين أمام أبنائهم، مشيرًا إلى أهمية التوجيه الهادئ والتوجيه بالتلميح والتعريض مع اقتفاء المنهج النبوي في التعامل بالرفق والتغافل عن بعض ما يقترفه الأبناء. وأوضح الحسين أن الأبناء يعيشون اليوم في ظل مؤثرات اجتماعية وإعلامية مختلفة، مبينًا أن صورة الآباء تغيرت في أذهان أبنائهم حيث كانوا يعدون في السابق النموذج الأمثل بينما الآن فإن الأبناء يحتكون بالعشرات من المؤثرات الخارجية التي أصبحت مفتوحة على مصارعها. ولفت الحسين إلى أهمية الاستعانة بالله في تربية الأبناء والدعاء لهما والاهتمام بصلاح النفس أولًا كما قال تعالى: «وكان أبوهما صالحًا». وبين الحسين أن كثرة الكلام والمبالغة في التوجيه لا يجدي كثيرًا مع الأجيال الحالية، مشيرًا إلى أن استخدام أساليب أخرى قد تكون أكثر جدوى مثل التلميح والرسالة والهدية واستخدام الوسائل غير المباشرة. وعن أسلوب المنع أ والحرمان قال الحسين إن هذا الأسلوب يختلف من بيت إلى آخر ومن طفل إلى طفل، مضيفًا أن أسلوب المنع اليوم أصبح صعبًا، وأن سياسة التوجيه أولى من المنع، بل لا بد من المداراة والمسايسة والمحاورة مع الأبناء.

البيت أولًا
وقال المشرف التربوي للنشاط الطلابي بوزارة التربية والتعليم بمنطقة مكة المكرمة سابقًا محمد نور قاري إن تصرفات الآباء والقدوات المحيطين بالأبناء من الأقارب تعد عاملًا مهمًا لغرس القيم التربوية في نفوس الأبناء بالإضافة إلى اصطحابهم إلى مجالس العلم ومجالس الكبار. وأوضح قاري أن هناك عوامل كثيرة تحول دون ترسيخ القيم في نفوس الأبناء وخاصة بعض وسائل الإعلام المرئية، مؤكدًا على أهمية تأثير الآباء وسلوكهم في البيت على سلوك أبنائهم وترسيخ القيم في نفوسهم حتى لو كانت هناك متغيرات اجتماعية من حولهم. مشددًا على أن لتربية البيت انعكاسات سواءً سلبية أو إيجابية على تصرفات الأبناء خارج البيت. وعن أسلوب الحرمان والمنع لترسيخ بعض القيم أو تعديل سلوك خاطئ أوضح قاري أن أسلوب الحرمان والمنع قد يجدي مع بعض الأبناء لكنه لا يجدي مع آخرين.

الحوار والإقناع
من جانبه قال المحاضر بجامعة الملك عبدالعزيز فايز الصعيدي إن القدوة هي الركن الأساس الذي يرسخ عند الأبناء القيم والسلوك خاصة من قبل الوالدين، مضيفًا أن الأبناء يميلون إلى التقليد والمحاكاة، وأوضح الصعيدي أن هناك نظريات تتحدث عن عملية البناء الاجتماعي والتي تفيد بأن أفراد المجتمع الواحد حين يتفاعلون مع بعضهم فإنهم ينتجون قوانين يتعارفون ويتفقون فيما بينهم عليها. مبينًا أنه يمكن بناء أخلاقيات ونظم سلوكية بالاتفاق مع الأبناء ومناقشة كافة القضايا والموضوعات معهم والوصول إلى اتفاق وتفاهم مع الأبناء لتعزيز السلوكيات الإيجابية. وأفاد الصعيدي أن عملية القدوة لا تأتي دائمًا بالأمر والنهي، إذ إن الأبناء قد يطيعون آباءهم بحكم سلطة الآباء وخوفًا منهم، مشيرًا إلى أنه إن لم تكن هناك قناعات لدى الأبناء بتلك القيم التي يوجههم إليها آباؤهم فإنهم لا يستطيعون إرغامهم على عمل ما. وعن عملية التوجيه والإرشاد بالكلام قال الصعيدي إن التوجيه إذا كان الهدف منه فتح حوار ونقاش بين الأبناء والآباء فإنها تكون طريقة فعالة ومفيدة.



 

ليصلك كل جديد عنا ولنكون علي اتصال